Sunday, July 3, 2011

أفضل مُحضر !



لمّـا بدأ عملَه لأولِ مرة... قيلَ له "أكتُب ما تـسمع".

لم يُعلمه أحد أصولاً للمهنة، ولم يهتم من حوله بما يكتب في البداية... لكن الحقيقة التي عرفها لاحقًا هي أنهم كانوا يترقبونه، يُتابعونه باستمرار، وكل كلمةٍ يسمعها من الماثلين أمامِه يقوم بتسجيلها، يُدونُها كما هي، يُدونُ حتى مواقع الشهيقِ والزفيرِ، وأصوات الأنفاسِ المكتومة والمُتهدجة للمُتقدمين ببلاغاتِهم أو للمُدعي عليهم.
لكنّ أكثر ما ميّزه عن غيرِه من حاملي لقب (المُحضر) أنه كان يخُطُ نبراتِ الأصوات في كتابتِه، فتتأرجح الحروفُ في التوتر، ويُصقلُ الخطُ في الثبات... وعلى هذا كان أفضل (مُحضر).

* ثُم وسوسَ له أحدهم، أخبره أنه على الرغم من كونِه الأفضل إلا أن ما يكتب لن يُحفظ، فتلك المحاضر بين الرفوف لم تُصف لجودتِها، إنما لكونِها كُتِبت كما أرادوا... وهُنا كان عليه أن يختار بين البقاء على المقعدِ والتدوين، وبين التربُع بذاتِ القلم والرُقع على عوارض الأرصفة يعمل كـ (عرضحلجي).

* وكعادتِه كان الأفضل، حتى في نوعية المحاضر المطلوبة هذه الأيام، الأفضل في فنون التحويلِ والتحوير... يجعل الباكي مُنشرحَ الصدر، والشاكي مُدّعى عليه... وعلى هذا احتلت محاضره جميع الصفوف، يطلبه الجميع لتسجيل الوقائع المعروضة أمامهم... وهو لم يترك فُرصة لأحدٍ غيره ليكتب، فقد كان كفيلاً بالأمور، وكان يتحرك مُلتصقًا بمقعدِه.

حتى حضر يومًا للعمل... لم يجلس أحدًا سواه، بينما الجميع يهرول، هؤلاء يحمون القسم، وهؤلاء يُجرون اتصالات عالية الأهمية... وما عاد أحدًا يتقدم ببلاغاتٍ للتدوين، وتبدّل الأُناس من حوله... حركة تنقلات أصابت الجميع عداه، بقى في مكانه مُلتصقًا يُشاهد طريقة الكتابة تتبدل وتعود إلى ما كانت عليه لمّا بدأ العمل أول مرة... تعودُ إلى (النزاهة).

* أخبره أحدهم أن هُناك (ثورة)، أنها بدأت وانتهت ومُستمرة، أنها غيّرت الكثير، غيرّت البشر والعمل وغيرّت المهنة، وأن عليه الآن أن يتفوق من جديد ويكون (الأفضل) في (النزاهة)... حاول أن يُسجل وقائع حرق الأقسام بشفافية لكنه فشل، حاول أن يُساهم في ورديِة الحياة المرغوبة لكنه فشل... وعلى هذا استمر في المحاولة والفشل، حتى اكتشف السبب.

* تذكرَ محاضره المحفوظة، المصفوفة في المخازن، المحاضر المُلفقة، الدموية، التي أجاد تزييفها، المحاضر التي نجت بنجاة القسم من الحرقِ... تذكرها وعلِمَ أن قلمه سيفقد (أفضليته) بوجود هذه المحاضر تؤرق ضميره... وعلى هذا غافلهم في ليلة وجابه البقاء في المقعد... نهضَ وأشعلَ بنفسه في القسم، ثُم حرر أول محضرًا له بعد (الثورة)... حرره ضد نفسه، واحتفظ بكونِه الأفضل.


TnT
in The TOWN

3 يوليااععـ 2011 

Friday, July 1, 2011

(آي- فُن) -2-



-2-

* الموعد ذاته، المكان لن يتغير... في اتجاهي الصباحي إلى الكُلية، بزحامٍ أقل في انتظار (الميكروباصات)... اليوم هو مُنتصف الأسبوع ولسببٍ ما يهدأ الزحام في هذا اليوم... الثورة غيرّت الكثير، غيّرت حتى نقاط الزحام المروري وأوقاته... لكن الصُدف لم تتغير، فكثيرًا ما أستقِل ذات (الميكروباص) عدة أيام مُتتالية، فهو في النهاية عملٌ روتيني يقوم به السائق والراكب -أنا في هذه الحالة-.

(الميكروباص) على ذاتِ الحال منذ الأمس، أبيض من الخارج يخترق واجهتٍه اللونين الأحمر والأسود... والقدر جعله يتوقف أمامي مُجددًا، لكن هذه المرة مقعدي كان خلف السائق بجوار الباب وليس إلى جانبه.
لمحني شاب الاثنين وعشرين، ولم يُبدِ اهتمامًا على الإطلاق، ثم انطلق مُسرعًا، يُدندن، حتى الطريق السريع المُزدحم.

زحف... وزحف... هواء مكتوم... وسيدتين سمينتين للغاية إلى جواري، يشاء القدر أن تطلب إحداهن النزول، ليحدث كل شيء بسرعة.
أفتح الباب، أنزل من (الميكروباص) في نفسِ اللحظة التي يُغادر فيها الرجل الجالس... أصعد مُجددًا لكن هذه المرة بجوار السائق... أتنفس لدقائق حتى تنجح السيدة في الخلف من تحريك جسدِها والنزول... ثم يستمر الزحف.

الـ I-phone كان بين يديه المُستندة على عجلة القيادة... تحدثت ببراءة:
"يعني معملتليش add ... مضفتنيش ليه يا عم؟!"

تنتحنح، واحمّر وجهه قليلاً، ثم أجاب:
"ما أنا معرفتش أعمل ايه بالايميل بتاعك يا بيه... مش باعرف أضيف حد بالايميل بتاعه"

"بتكتب الايميل في الـــ ..."
توقفت قليلاً حتى أجد الكلمة المناسبة...

"بتكتب الإيميل في البحث، وبيطلع لك بعد كده"
لم أستطع إخفاء ابتسامة دنئية ظهرت على شفتاي.

"ان شاء الله يا سعادة البيه..."

سألته من أجل إكمال تظليلِ الأمور العالقة بيننا بالأمس:
"بس أنا عاوز أسألك سؤال.. انت مش حاسس إنك من كلامك معايا امبارح كنت بتجمع الناس والشباب كلهم بحكمك... يعني شايف إن الناس كلها منفوخين وشايفين نفسهم أحسن ولا انت ايه رأيك ؟!"

"يا باشا..."

قاطعته مع الكلمة التي أكرهها:
"أصل أنا الصراحة امبارح ــ معرفتش أرد عليك"

لحظة ضعف أو اعتراف بالضعف... استغلها بطريقة جيدة..

"يا باشا... ما هو اللي أنا شايفه أدامي بيقول كده... سيبك انت من الفايس بوك، سيبك من كلام التليفزيون والجرانين... لمّا يركب معايا واحد راجل... راجل متقيف، عايق، وشكله نضيف... ويقعد جنبي وياخد الكرسي اللي جنبي كله لحسابه -زي حضرتك كده-... وطول السكة نازل سبّ ولعن في الغلابة اللي زيي.. السواقين... ويقولي قال ايه إني أنا واللي زيي أوسخ ناس في البلد وإحنا اللي خاربينها..."

لا رد... لا يوجد رد... بماذا عساي أن أرد... اكتفيت فقط بالنظر إلى شاشة الـ I-Phone...

"يقولك إننا من ساعة الثورة وإحنا ما صدقنا... والناس الغلابة والبياعين والسواقين والسريحة ساحوا على بعض في الشوارع... وبنيجي نشتكي إن البلد مفيهاش أمن ييجي يدينا على دماغنا... البيه ابن البيه ميعرفش إن اللي بيتكلموا عن الأمن والاستقرار هم اللي زيّه وزيّك... مش احنا..."

"بس.... ممكن يكون..."

"مفكرينا مش عارفين... مفكرينا مش حاسين... مع إننا عارفين اهو... بنشوف اللك ده كله على الفايس، وغيره... مفكرينا مش فاهمين... طيب وهم مش العالم المُثقفة اللي زيك كده قالوا بعد الإستفتاء إنهم حينزلوا الشارع... منزلوش ليه ؟! ..."

حاولت التبرير:
"مين قالك... نزلوا والله... بس إحنا بس محتاجين نصبر..."

"أيوه.. نصبر... ما إحنا على طول صابرين..."
غضب حاد وهمّ ثقيل ميّزا نبرته... وصوت أنثوي جاء من الخلف/
"الله يخرب بيتكم وقفتم حالنا..."


* ادعيّت أنني لم أتبين دُعائها... ومرت فترة صمت، ألقى فيها السائق بالـ I-Phone على (تابلوه الميكروباص).

نزول وصعود، توقف، وسرعة زائدة... وأفكار مئوية العدد تهتز برأسي، سألت السائق الشاب وأنا على يقين أنني مصدر إزعاج له:
"وانت بتشتغل حاجة تانية بقى ؟؟"

أجاب بتردد: "عندي توك توك مشغل عليه واحد"

"كويس والله"

"ايوه كويس... ما هو سواقين التكاتك نفعوا أيام الثورة.. مش كده ولا ايه ؟!"

لم أفهم مغزاه من السؤال: "أزاي يعني؟!"

"ما انت يا بيه اللي بتلف وتدور في نفس الكلام اللي اتكلمنا فيه امبارح...  هو مش دلوقتِ بس طالعين يدافعوا على العيال الغلابة السواقين ويقولك إن كان لهم دور كبير في الثورة ؟!... كان فين الكلام ده لمّا بتطلعوا صور الشُهدا في القنوات والجرايد... بتطلعوا صور الشباب اللي شايفينه مُناسب بس..."

"يا عم حق الشهدا كلهم محفوظ والله"

"ولا يعني علشان إحنا مش عارفين نطبعوا صور العيال البسيطة ونلزقوها على العربيات"

 "مش الفكرة..."

"القضية... وهو لو خالد سعيد..."

"الله يرحمه.."

"الله يرحمه.. لو خالد سعيد كان واحد من سواقين التكاتك... ولا لو كان أنا حتى اللي معايا آي-فُن... كان حد حيعرف حاجة ولا يسمع عن الموضوع؟!"

"ايوه يا عم كُنا حنعرف .."

"لا مكنتوش... ما هو ياما حصل.. ياما عيال مظلومة طلع عين أهلها في الأقسام ناحية الحتت اللي ساكنين فيها... وولا حد اتحمق ولا قام اتكلم وعملهم صفحة على الفايس بوك..."

"المسألة.."

"المسألة هي أن لو أنا لابس نفس اللبس اللي انت لابسه... حيفضل غيرك باصص لي نفس البصة إياها"
"لو أنا لابس نضارتك دي... حافضل سواق.."
"لمّا إحنا بنحط على شعرنا جيل زي ما بتحطم على شعركم... بيتقال علينا بيئة"
"واهو لمّا شلنا آي-فُن... اتقال علينا حرامية"

"هو انت مش حتنزل هنا يا سعادة البيه ؟!"

نبهني أخيرًا بعد أن أفحمني بكلامِه المُتتابع... لم تكن هُناك فُرصة للرد، لم يكُن هُناك ردًا مُقنعًا على أيٍ من جُملِه... كنت وصلت للمكان الذي نزلت فيه بالأمس... ونزلت اليوم، بجملة أخيرة ردًا عليه:
"انت خلّي عندك إيمان بس إن فيه ناس كويسة... وإن فيه ناس فاكراكم...".


* إلى أي درجة... إلى أي درجة أنا أصح وهو خطأ؟!... إلى أي درجة هو الأصح؟!...
ألفاظه، أفكاره، واحترامه الواضح في كُل تصرفاته، حتى ذاكرته... كل ذلك جعلني أفكر، وأفكر في الغد لأنني سأنتظر الآي- فُن.



-3-

* في اليوم التالي... لم يكن الميعاد المُعتاد، وعلى الرغم من ذلك فقد انتظرت... وانتظرت... حتى جاء في النهاية... لم يكن هناك زحامًا على الإطلاق في الحادية عشر صباحًا... وكذا مُحادثتنا هذه المرة لم تتعدَ الدقائق...

توقف (الميكروباص) بجانبي، فسألت (السائق) بمرح قبل الركوب:
"معملتليش add برضه !!"

أجاب/
"ما خلاص يا سعادة البيه... الآي-فُن راح !!... امبارح سواق ملاكي خبط العربية من ورا... هو حُمار غلطان... بس أنا بعت له الآي- فُن"

"بعت له الـ I- phone ؟!!!"

"علشان أصلح العربية..."

مددت يدي لأفتح الباب...

"لأ مش طالع دلوقتِ يا سعادة البيه"

ثم انطلق.


* (نظارة، وميكروباص آخر، وذاتِ الكلية المرموقة...)
فكرة جديدة، ورغبة عميقة في أن أكون أنا سائق الملاكي الذي ابتاع الـ (I- فُن).


TnT 
in The House

1 يوليااا 2011