Friday, July 1, 2011

(آي- فُن) -2-



-2-

* الموعد ذاته، المكان لن يتغير... في اتجاهي الصباحي إلى الكُلية، بزحامٍ أقل في انتظار (الميكروباصات)... اليوم هو مُنتصف الأسبوع ولسببٍ ما يهدأ الزحام في هذا اليوم... الثورة غيرّت الكثير، غيّرت حتى نقاط الزحام المروري وأوقاته... لكن الصُدف لم تتغير، فكثيرًا ما أستقِل ذات (الميكروباص) عدة أيام مُتتالية، فهو في النهاية عملٌ روتيني يقوم به السائق والراكب -أنا في هذه الحالة-.

(الميكروباص) على ذاتِ الحال منذ الأمس، أبيض من الخارج يخترق واجهتٍه اللونين الأحمر والأسود... والقدر جعله يتوقف أمامي مُجددًا، لكن هذه المرة مقعدي كان خلف السائق بجوار الباب وليس إلى جانبه.
لمحني شاب الاثنين وعشرين، ولم يُبدِ اهتمامًا على الإطلاق، ثم انطلق مُسرعًا، يُدندن، حتى الطريق السريع المُزدحم.

زحف... وزحف... هواء مكتوم... وسيدتين سمينتين للغاية إلى جواري، يشاء القدر أن تطلب إحداهن النزول، ليحدث كل شيء بسرعة.
أفتح الباب، أنزل من (الميكروباص) في نفسِ اللحظة التي يُغادر فيها الرجل الجالس... أصعد مُجددًا لكن هذه المرة بجوار السائق... أتنفس لدقائق حتى تنجح السيدة في الخلف من تحريك جسدِها والنزول... ثم يستمر الزحف.

الـ I-phone كان بين يديه المُستندة على عجلة القيادة... تحدثت ببراءة:
"يعني معملتليش add ... مضفتنيش ليه يا عم؟!"

تنتحنح، واحمّر وجهه قليلاً، ثم أجاب:
"ما أنا معرفتش أعمل ايه بالايميل بتاعك يا بيه... مش باعرف أضيف حد بالايميل بتاعه"

"بتكتب الايميل في الـــ ..."
توقفت قليلاً حتى أجد الكلمة المناسبة...

"بتكتب الإيميل في البحث، وبيطلع لك بعد كده"
لم أستطع إخفاء ابتسامة دنئية ظهرت على شفتاي.

"ان شاء الله يا سعادة البيه..."

سألته من أجل إكمال تظليلِ الأمور العالقة بيننا بالأمس:
"بس أنا عاوز أسألك سؤال.. انت مش حاسس إنك من كلامك معايا امبارح كنت بتجمع الناس والشباب كلهم بحكمك... يعني شايف إن الناس كلها منفوخين وشايفين نفسهم أحسن ولا انت ايه رأيك ؟!"

"يا باشا..."

قاطعته مع الكلمة التي أكرهها:
"أصل أنا الصراحة امبارح ــ معرفتش أرد عليك"

لحظة ضعف أو اعتراف بالضعف... استغلها بطريقة جيدة..

"يا باشا... ما هو اللي أنا شايفه أدامي بيقول كده... سيبك انت من الفايس بوك، سيبك من كلام التليفزيون والجرانين... لمّا يركب معايا واحد راجل... راجل متقيف، عايق، وشكله نضيف... ويقعد جنبي وياخد الكرسي اللي جنبي كله لحسابه -زي حضرتك كده-... وطول السكة نازل سبّ ولعن في الغلابة اللي زيي.. السواقين... ويقولي قال ايه إني أنا واللي زيي أوسخ ناس في البلد وإحنا اللي خاربينها..."

لا رد... لا يوجد رد... بماذا عساي أن أرد... اكتفيت فقط بالنظر إلى شاشة الـ I-Phone...

"يقولك إننا من ساعة الثورة وإحنا ما صدقنا... والناس الغلابة والبياعين والسواقين والسريحة ساحوا على بعض في الشوارع... وبنيجي نشتكي إن البلد مفيهاش أمن ييجي يدينا على دماغنا... البيه ابن البيه ميعرفش إن اللي بيتكلموا عن الأمن والاستقرار هم اللي زيّه وزيّك... مش احنا..."

"بس.... ممكن يكون..."

"مفكرينا مش عارفين... مفكرينا مش حاسين... مع إننا عارفين اهو... بنشوف اللك ده كله على الفايس، وغيره... مفكرينا مش فاهمين... طيب وهم مش العالم المُثقفة اللي زيك كده قالوا بعد الإستفتاء إنهم حينزلوا الشارع... منزلوش ليه ؟! ..."

حاولت التبرير:
"مين قالك... نزلوا والله... بس إحنا بس محتاجين نصبر..."

"أيوه.. نصبر... ما إحنا على طول صابرين..."
غضب حاد وهمّ ثقيل ميّزا نبرته... وصوت أنثوي جاء من الخلف/
"الله يخرب بيتكم وقفتم حالنا..."


* ادعيّت أنني لم أتبين دُعائها... ومرت فترة صمت، ألقى فيها السائق بالـ I-Phone على (تابلوه الميكروباص).

نزول وصعود، توقف، وسرعة زائدة... وأفكار مئوية العدد تهتز برأسي، سألت السائق الشاب وأنا على يقين أنني مصدر إزعاج له:
"وانت بتشتغل حاجة تانية بقى ؟؟"

أجاب بتردد: "عندي توك توك مشغل عليه واحد"

"كويس والله"

"ايوه كويس... ما هو سواقين التكاتك نفعوا أيام الثورة.. مش كده ولا ايه ؟!"

لم أفهم مغزاه من السؤال: "أزاي يعني؟!"

"ما انت يا بيه اللي بتلف وتدور في نفس الكلام اللي اتكلمنا فيه امبارح...  هو مش دلوقتِ بس طالعين يدافعوا على العيال الغلابة السواقين ويقولك إن كان لهم دور كبير في الثورة ؟!... كان فين الكلام ده لمّا بتطلعوا صور الشُهدا في القنوات والجرايد... بتطلعوا صور الشباب اللي شايفينه مُناسب بس..."

"يا عم حق الشهدا كلهم محفوظ والله"

"ولا يعني علشان إحنا مش عارفين نطبعوا صور العيال البسيطة ونلزقوها على العربيات"

 "مش الفكرة..."

"القضية... وهو لو خالد سعيد..."

"الله يرحمه.."

"الله يرحمه.. لو خالد سعيد كان واحد من سواقين التكاتك... ولا لو كان أنا حتى اللي معايا آي-فُن... كان حد حيعرف حاجة ولا يسمع عن الموضوع؟!"

"ايوه يا عم كُنا حنعرف .."

"لا مكنتوش... ما هو ياما حصل.. ياما عيال مظلومة طلع عين أهلها في الأقسام ناحية الحتت اللي ساكنين فيها... وولا حد اتحمق ولا قام اتكلم وعملهم صفحة على الفايس بوك..."

"المسألة.."

"المسألة هي أن لو أنا لابس نفس اللبس اللي انت لابسه... حيفضل غيرك باصص لي نفس البصة إياها"
"لو أنا لابس نضارتك دي... حافضل سواق.."
"لمّا إحنا بنحط على شعرنا جيل زي ما بتحطم على شعركم... بيتقال علينا بيئة"
"واهو لمّا شلنا آي-فُن... اتقال علينا حرامية"

"هو انت مش حتنزل هنا يا سعادة البيه ؟!"

نبهني أخيرًا بعد أن أفحمني بكلامِه المُتتابع... لم تكن هُناك فُرصة للرد، لم يكُن هُناك ردًا مُقنعًا على أيٍ من جُملِه... كنت وصلت للمكان الذي نزلت فيه بالأمس... ونزلت اليوم، بجملة أخيرة ردًا عليه:
"انت خلّي عندك إيمان بس إن فيه ناس كويسة... وإن فيه ناس فاكراكم...".


* إلى أي درجة... إلى أي درجة أنا أصح وهو خطأ؟!... إلى أي درجة هو الأصح؟!...
ألفاظه، أفكاره، واحترامه الواضح في كُل تصرفاته، حتى ذاكرته... كل ذلك جعلني أفكر، وأفكر في الغد لأنني سأنتظر الآي- فُن.



-3-

* في اليوم التالي... لم يكن الميعاد المُعتاد، وعلى الرغم من ذلك فقد انتظرت... وانتظرت... حتى جاء في النهاية... لم يكن هناك زحامًا على الإطلاق في الحادية عشر صباحًا... وكذا مُحادثتنا هذه المرة لم تتعدَ الدقائق...

توقف (الميكروباص) بجانبي، فسألت (السائق) بمرح قبل الركوب:
"معملتليش add برضه !!"

أجاب/
"ما خلاص يا سعادة البيه... الآي-فُن راح !!... امبارح سواق ملاكي خبط العربية من ورا... هو حُمار غلطان... بس أنا بعت له الآي- فُن"

"بعت له الـ I- phone ؟!!!"

"علشان أصلح العربية..."

مددت يدي لأفتح الباب...

"لأ مش طالع دلوقتِ يا سعادة البيه"

ثم انطلق.


* (نظارة، وميكروباص آخر، وذاتِ الكلية المرموقة...)
فكرة جديدة، ورغبة عميقة في أن أكون أنا سائق الملاكي الذي ابتاع الـ (I- فُن).


TnT 
in The House

1 يوليااا 2011


8 comments:

  1. وربنا زعلت ع الآي فُن .. مش هزار بقى !
    :S

    مٌوجعة ! مش هتكلم ف تفاصيل في الكتابة بس انت تفوقت على نفسك ، بصيت من بره الصندوق .. جبت واحد قال حاجة غير اللي كان متوقعة .. وعنده حق بصراحة .. حتى الموت فيه مقامات و"ده كان مين ؟" ولابس إيه عشان نكون أوضح .. لا مؤاخذة في اللي هقوله بس في ناس لو شافت واحد -بكرر أسفي- "سارس" في صور الناس اللي ماتت كان هيقولوا عليهم بلطجية وناس ملهاش شغلانة ..

    الله يا بني !!

    ReplyDelete
  2. عجبتني النهاية إنها انتهت على كده !

    ReplyDelete
  3. احنا نتكلم بصراحة .. انتا ناقشت موضوع الطبقية بطريقة اكتر من رائعة انا دلوقتى حسيت احنا قد ايه معوجين و نقعد نقول سيس و سارس على مخاليق ربنا .. كمان عجبتنى قوى حتة صور الشهداء و دايقتنى قوى برده .. بس فعلا قصة واقعية جدا و بسيطة و محستش انى كنت بأقرا قصة بس حسيت انى عشت الموقف ;)

    ReplyDelete
  4. Tesada2 7aseet bel zamb .. 3agbtny awii 7etet " law labsa zay lebsak we 7ateen jel 7 ye2olo 3aleena be2a .. Le awel mara a7es bel nas deeh .. Tarek I respect you , Begad enta 5altny a5od baly men 7aga 3omry ma fakart feha .. we lama ba3 el I-phone 2olt fe sery " 2areet ya fale7 aho etbaa3 " xDD

    Chapeau Ya Tiko

    ReplyDelete
  5. naYeRa :

    بسم الله الرحمن الرحيم
    السواق بيتكلم عن الطبقية !!!

    الأفندي المحترم المهندم الي في كلية طب عجز عن الرد عليه

    كان بالنسبه ليا هو تنافس ما بين فكرتين لطبقتين مختلفتين فاز فيها سواق الميكروباس ....

    بالنسبة لتسلسل الأحداث فهو كان اكتر من رائع و عامل دخول الصدفة فالموضوع كان موءثر جدا زي ما يكون القدر حب يجمعهم تاني ^^


    حسيستني اد ايه احنا ولا حاجة لما بنتكلم عليهم نص كلم

    و ان هما ممكن يقولوا كلام اعمق من الي احنا بنكتبوا فب البلوجز يتاعتنا

    the main idea is simply adOrable :D

    اما بالنسبة للأسلوب فده نوع اسلوب جديد أول مرة أقرالك حاجة كدة عجبني جدا كل مرة بتبينلي ان لسة في حاجات كتير انتا حتفجئنا بيها في كتباتك !!!

    i like ur style of writing ^^

    "Finaly "
    النهاية في الأتنين أقوى من اي نهاية تخياتها
    انت مش متخيل اد ليه زعلت على

    ال "(I- فُن)"

    really amazing one !! ana dm3t asln we ana b2raha !! keep it up and keep surprising me every time :D:D

    3a2doonaaaa b2aaaaaaaaaaaaaa :( :(

    noosha ^^

    ReplyDelete
  6. هو فعلا اللي مخلليها جامدة انها بتناقش قضية كل الناس بتتكلم عنها مش حسينها علشان مش عيشينها
    ويمكن لازم احنا كمان نوصل للناس ونعرف مشاكلهم ونحاول نحلها بجدية

    و فيما يختص بـ الآي- فُن فده من قرك يا حبيبي !!!ههه

    ReplyDelete
  7. انت تحفه .. هو دا حصل بجد !

    ReplyDelete